رحلة اثام بقلم منال سالم
الأول
اللعبة الحقېرة
صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها حاولت التغلب على ما يعتريها عقلها ولو لبرهة من التفكير في شأنه. ظنت تهاني أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة لكونه خبير في هذا الشأن لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيع شتى كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة وسألته بحاجبين معقودين
أخبرها بغموض ووجهه تداعبه ابتسامة شقية
هتعرفي دلوقتي.. اتفضلي.
ثم أشار لها بيده لتتحرك فتبعته صامتة إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية أسعدتها المفاجأة السارة وصعدت
أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي دي أول مرة وفي يخت بجد كتير عليا.
ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.
أحست بشيء من الحرج وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوء
شكرا يا دكتور ممدوح كلك ذوق.
شعرت به يتحرك مبتعدا ليغيب عن أنظارها فسحبت شهيقا عميقا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددا وفي يده كأسا مملوءة
تحفزت في جلستها وسألته بتردد دون أن تمد يدها لتأخذه
إيه ده
معلش أنا مش بشرب.
ضحك في لطافة وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشا
ده عصير فواكه كوكتيل إنتي فكرتيه حاجة تانية
زاد شعورها بالخجل وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدما أخذت الكأس منه
أسفة أصل افتكرت دكتور مهاب لما عزم عليا بشمبانيا.
في التو أخبرته بلا تفكير
جلس مجاورا لها وأردف في إيجاز
كويس...
أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد وصدق حدسها عندما استأنف مسترسلا بغموض محير
أصله متعود يعمل دايما كده مع اللي يعرفهم...
وخصوصا الچنس الناعم ما هو معجباته كتير بقى.
شعرت بدمائها تحنقن بقدر من الغليل يسري في عروقها ويحتل كل ذرة في كيانها ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض
امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل لكنه كان كالعلقم السقيم وممدوح لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها
بس هو مش بتاع جواز أخره يقضي يومين حلوين مع بنت جميلة شوية ويزهق ويرجع يدور على غيرها ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.
أحست بتورية خفية في ختام جملته ربما كانت هي المقصودة بهذا فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعال ملحوظ
وأنا مالي هو حر في تصرفاته أنا مش هحاسبه...
ازدادت أصابعها إطباقا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها
وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.
ثبتت تهاني نظراتها عليه وأنهت كلامها قائلة بحسم غاضب
مش أكتر من كده.
ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدا لموضع إسناده فتركته في الفراغ فسقط في التو وانسكب محتواه على السطح الخشبي هبت واقفة وأبدت انزعاجا كبيرا
من تصرفها الأخرق وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها لكن ممدوح تدخل قائلا وقد قام واقفا
حصل خير ما تشغليش بالك.
كما كان عليه قبل قليل فاستطرد ممدوح مخاطبا إياها بتحذير مباشر وهو مسلط نظره عليها
أنا عاوزك بس تاخدي بالك ماتتخدعيش بالكلام الحلو.
صاحت به بحدة
أنا مش عبيطة يا دكتور.
امتص ڠضبها بحنكة وعلق مرددا بهدوئه الواضح كما لو كان يمدحها بغزل مستتر
مش قصدي أي إهانة في كلامي بالعكس إنتي إنسانة ذكية وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.
قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم وقال متفهما
حاضر.
تركها بمفردها وذهب بعيدا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط زحفت الدموع إلى
يعني أنا زيي زي غيري مجرد لعبة في إيده
اختفى ما ظنت أنه كان جميلا بوجوده لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية راقبها ممدوح مستمتعا بما أحرزه من تقدم ماكر في إفساد خطة رفيقه فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
بنوع من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدما ترجلت من هذه السيارة الغريبة أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر كانت مختلفة تماما عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكل يومي إلى هنا وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين
الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.
شردت نظراتها في الفراغ ودمدمت بنبرة مغتاظة
شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.
تنهدت مليا لتضيف بعدها بقنوط
يا سلام لو عندي نص حظها.
ثم سارت تجاه الباب استعدادا لاستقبالها ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها
إيه يا سيدي الدلع ده كله مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!
هذا ما كان ينقصها حقا واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها وتراقبها في كل شاردة وواردة ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسمۏم لذا هدرت تهاني صاړخة فيها دون مقدمات لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة
ابتهال ملكيش دعوة باللي بعمله وأحسنلك متركزيش معايا.
إنتي متعصبة عليا كده ليه بس
ما لبث أن تابعت بتلميح مبطن لم تستسغه
ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده.
أطبقت تهاني على محاولة ضبط أعصابها لكنها تأهبت مجددا عندما نطقت الأخيرة بغير احتراز لتستفزها
بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو ارسيلك على واحد.
انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالھجوم وهي تلوح بيدها لها
ملكيش فيه ومش من حقك تتدخلي في حياتي ولا تملي عليا اختياراتي أنا حرة اللي أشوفه
كعاصفة رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب پعنف خلفها فانتفض جسد ابتهال في ذعر مشوب بالاندهاش حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحير غريب
هي مالها دي
ثم هزت كتفيها في عدم اكتراث وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها
أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
اضطرب نومها ووجدت صعوبة في استدعائه فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحېة الاستغلال والخداع خاصة مع تكرار كلمات ممدوح الأخيرة لها في عقلها ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه مهاب خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي معتقدة في نفسها بسذاجة
أنها ذات تأثير قوي عليه لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء ومع زاد الطين بلة أيضا سخافات ابتهال فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدموع المتأثرة من عينيها ورددت تلوم نفسها بصوت محموم خاڤت
يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته
اختنق صدرها أكثر وغصت بالمزيد من البكاء فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها لم تطق هذه الفكرة مطلقا كيف لها أن تنخدع بحماقة لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل تبللت وسادتها عندما تقلبت على جانبها لتتساءل بحړقة
دي بقت قيمتي عنده واحدة رخيصة من الشارع!!!
أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.
سحبت الغطاء ووضعته أعلى
رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها
أهوو درس اتعلمت منه!!
بجسد مشدود وكتفان منتصبان وقف سامي خلف مقعد أبيه بمسافة خطوة ينتظر في صمت تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة ملحة لا يكف عن التفكير فيها أبدا أن يصبح وريث ذاك العرش الوحيد المتحكم في إمبراطورية الجندي ما لبث أن تبخرت أحلامه حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج تصلب في وقفته وراحت حواسه تتأهب في تحيز مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشديد ونظراته للحدة حينما
فؤاد باشا! والدي العزيز.
ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه
لسه فاكر إن ليك عيلة
لاذ مهاب بالصمت وسار على مهل قاصدا مكتب أبيه الضخم بينما استغل سامي الفرصة ليوبخه هو الآخر كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده فيتخذ موقفا مناوئا ومعاديا له فهتف به في تجهم ساخط
ده مصدق طبعا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته مافيش رقيب عليه ولا حسيب!!
تحولت أنظار مهاب إليه رمقه بنظرة ڼارية قبل أن يرد بهدوء تشوبه سمة العنجهية
أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا سامي.
تابع تقدمه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه لم يبعد ناظريه عنه وتابع بغرور يليق به
أنا مهاب الجندي وعارف يعني إيه إني أكون ابن فؤاد باشا الجندي!!
انحنى قليلا واضعا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين وأكمل في رنة هادئة
وعشان أخيب ظنك أنا مش مقضيها فسح وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.
فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفات بها استقام واقفا ثم خاطب والده بتوقير
اتفضل يا باشا.
زر فؤاد عينيه متعجبا وهو يأخذ منه الملفات
إيه دول
أجابه باسما في ثقة كاملة
ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامات اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.
بفم مفتوح وملامح مبهوتة حملق سامي في شقيقه مصډوما حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدمة على قسماته عندما تابع توضيحه المتباهي
وده عقد شراكة مع مؤسسة ... لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.
تطلع فؤاد إلى كل ملف باهتمام ممزوج بالإعجاب وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن بينما استمر مهاب في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخباره
أما ده بقى...
لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته حيث قاطعه ملتفا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوع من المقارنة
شايف أخوك يا ريت تتعمل منه.
ازدرد ريقه بصعوبة وقال واضعا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه
أكيد يا بابا.
استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها مهاب من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير سامي الحوار لموضوع آخر بقوله النزق
كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.
رفع بصره إليه متسائلا في دهشة مستهجنة
جواز!!
حينئذ